ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله(ص) ذلك الرجل الذي جاء إليه وقال له: يا رسول الله أوصني، قال له: "إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَامْضِهِ، وَإِنْ يَكُ غَيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ".
أيُّها الأحبّة: نحن أحوج ما نكون إلى هذه الوصية أن تكون حاضرة قبل كل كلمة نطلقها أو قرار نتخذه أو موقف بحق شخص أو جهة أو أسماء أو دخول في سلم أو حرب، بأن نأخذ في الحسبان تبعات ذلك وما قد يحصل من ورائه وما قد يؤدي إليه من تداعيات إن على الصعيد الفردي أو الاجتماعي أو العام، وعلى الآخرة، ومتى حصل ذلك سنكون أكثر حكمة ووعياً ومسؤولية على مواجهة التحديات...
والبداية من فلسطين، حيث يستمر العدو الصهيوني بارتكاب مجازره وفظائعه بحق المدنيين الآمنين في قطاع غزة في استهدافه للمباني السكنية على رؤوس ساكنيها والمرافق الحيوية وصولاً إلى المستشفيات التي لم يعد أغلبها صالحاً لخدمة المرضى والجرحى، وفي استمرار الحصار المطبق عليه الذي يمنع من الحصول على لقمة الخبز والماء والدواء وسبل الاستشفاء والوقود، وهو يواكب ذلك باقتحامات متواصلة ومواجهات دامية وحملة اعتقالات يمارسها في الضفة الغربية ظناً منه أنه بذلك يستعيد هيبته وقوة الردع التي فقدها ويفقدها كل يوم، بفعل الضربات التي وجهتها إليه المقاومة الفلسطينية ولا تزال وبهدف زرع اليأس في قلوب الفلسطينيين ودفعهم إلى مغادرة أرضهم أو الانصياع للخيارات التي يسعى إليها هذا الكيان وجعلهم يقبلون بالأمر الواقع الذي سيفرضه عليهم.
وهو في ذلك غير آبه بكل الأصوات التي بدأت تتعالى في أغلب بلدان العالم في الشرق والغرب التي تدين جرائمه وارتكاباته بحق الشعب الفلسطيني، وتدعوه إلى إيقاف نزيف الدم الذي يودي بالنساء والشيوخ والأطفال.
ورغم كل المآسي التي نشهدها والعدوانية التي يقوم بها هذا العدو وآلته العسكرية والدعم الغربي الكامل الذي يحظى به، نرى في المقابل من لا يزالون يصرون على منازلة هذا العدو ومواجهته في الميدان لرد كيد عدوانه، ويقدم في ذلك أمثولات في البطولة والشجاعة والإقدام رغم عدم التكافؤ بين إمكاناته وإمكانات العدو والتي تجعله غير قادر على التقدم وإن تقدم بأكلاف باهظة تثقله وتثقل كيانه.
إننا أمام ما يجري، لا بد أن نحيي مجدداً صمود هذا الشعب وثباته وصبره واستعداده لتقديم أغلى التضحيات من أجل أن يعيش حراً في أرضه عزيزاً في وطنه.
ونجدد دعوتنا بضرورة الوقوف مع هذا الشعب ومع قضيته في هذه المرحلة العصيبة انطلاقاً من واجب إنساني وقومي وإسلامي، ومساندتهم بكل أساليب الدعم ووسائله.
إننا نرى في هذه المرحلة أن الساكت على كل ما جرى ويجري هو شريك ومدان، سواء عند الله الذي يرفض السكوت على الظلم والعدوان، وما يؤدي إليه من تمادٍ لهذا العدو ومن يقف معه وخلفه في عدوانه وغيه، علماً أنه لن يكون بمنأى عنه في المستقبل...
ومن هنا، فإننا ندعو الدول العربية والإسلامية التي ستجتمع في جامعة الدول العربية أو في منظمة التعاون الإسلامي، إلى أن يكون موقفها موحداً وصارخاً وحاسماً ومنسجماً مع قيمها ومبادئها في إدانة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني العربي والمسلم، والعمل بكل الإمكانات والوسائل التي تمتلكها بما يمنع هذا العدو من مواصلة ممارساته الإجرامية بحق هذا الشعب، وذلك باتخاذ مواقف عملية ورادعة تؤدي إلى إيقاف نزف هذا الدم العربي والإسلامي، ونحن نرى أن هذه الدول قادرة على القيام بهذا الدور إن حررت إرادتها ووحدت جهودها وقررت أن تخرج من ضعفها وهزيمتها أمام هذا العدو ومن ورائه وتأخذ في الاعتبار نبض شعوبها.
ونعود إلى لبنان الذي لا يزال يقف في الموقع المتقدم في مساندة الشعب الفلسطيني ويقدم التضحيات الجسام من دماء أبنائه وممتلكاتهم ومقدراتهم واستعدادهم لتحمل أعباء ذلك، في الوقت الذي نشهد وبشكل يومي استمرار العدو الصهيوني باعتداءاته المتكررة على القرى اللبنانية والتي تستهدف الأماكن السكنية والمزروعات والمدنيين والتي وصلت إلى قتل الأطفال والنساء في خلال تنقلاتهم والتي شهدناها في الاستهداف المتعمد لسيارة مدنية أودت بحياة ثلاثة فتيات بعمر الورود وجدتهم وجرح أمهم، والتي أراد العدو من خلالها بث الخوف والرعب في نفوس اللبنانيين ودق أسفين بينهم وبين المقاومة...
إننا أمام ما جرى إذ ندين هذه الاعتداء الغاشم، وفي الوقت الذي نحيي فيه صمود أهالينا في جنوبنا العزيز وثباتهم نتقدم بالعزاء لوالد هذه العائلة الكريمة وللأم الصابرة الجريحة ولكل المقاومين الذين يبذلون الدماء والتضحيات من اجل حفظ هذه الأرض وكرامة لهذا الوطن وعزته ونصرة للشعب الفلسطيني المظلوم ... ونقول للعدو الذي يريد من وراء ذلك إخافة الشعب اللبناني وثنيه عن الوقوف في وجه غطرسته وعلوه واستكباره: إنه لن يجني من وراء ما حدث إلا مزيداً من إصرار هذا الشعب ومقاومته الباسلة على مواجهة هذا الكيان ومنع عبثه بالأرض التي نحن معنيون بحفظها وإبقائها عزيزة حرة كريمة.
إن المرحلة تدعو إلى تجميد كل الخلافات والحسابات الخاصة والمصالح الفئوية، سواء عبر المواقف والتصريحات التي تصدر عبر الوسائل الإعلامية أو مواقع التواصل، لحساب بلد نخشى أن يتداعى وتتداعى أركانه، في ظل التداعيات التي قد تحصل من وراء استمرار العدو الصهيوني بعدوانه والأزمات المعيشية والحياتية التي تزداد يوماً بعد يوم.